شدد الكاتب الاقتصادي نيكولا صبيح على أن "السياسة والاقتصاد والتمويل مرتبطين بعضهم ببعض، هذه الفرضية، أو الحقيقة البديهية، تمّ تجاهلها ونتيجة لذلك، تمّ الحكم على تصرفات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كما لو كان على رأس البنك المركزي السويدي، بينما تجاهل بشكل سخيف كل الاحداث المحلية والإقليمية والتطورات الأمنية منذ أوائل التسعينات".
وأضاف صبيح في دراسة بعنوان "حاكم في حقل ألغام" نشرها "Infopro research"، وعرض "المحطات التي مر بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتزامن مع الأحداث والتطورات التي عصفت بلبنان. وإنطلق من سنة 1993 حيث شنَّت إسرائيل "عدواناً على لبنان وعانت البلاد كما مصرف لبنان من آثار هذا العدوان. وقد شكّل صعود رفيق الحريري في تلك المرحلة صدمة ايجابية في البلد، في حين تولى رياض سلامة رئاسة مصرف لبنان".
وتطّرق صبيح إلى المرحلة الثانية ما بين سنة 1993 و1995، والتي تضمّنت "خطة إعادة الإعمار"، معتبراً أن "هذه الخطّة وخلافاً للإدّعاءات الشائعة، لم يكن متوقعاً منها ان تؤدي الى مديونية تغرق البلد، وخاصة داخلياً، واتجهت نحو الأموال العربية والعالمية الممنوحة بشروط تفضيلية. وكانت معظم المشاريع مثل الموانئ والمطار تحمل تصوراً بتنفيذ الطرق السريعة من قبل القطاع الخاص في إطار مخطط (Build-OperateTransfer BOT).
وتابع، "منشورات العرض التي وجّهت الى المستثمرين المحتملين يجب أن تكون موجودة في محفوظات مجلس الإنماء والإعمار، لكن الافرقاء الذين كانوا يسيطرون على السلطة في ذلك الوقت من سوريين وغيرهم، لم يرغبوا في التنازل عن العرش في محاولة للسيطرة على المشاريع - والأموال المخصّصة لها. كما أرادوا التهرّب من الشروط الدقيقة والتحكم الذي تمارسه هذه الصناديق عادة (اي الخارجية)، لذلك اختاروا الدين المحلي".
وتطرّق صبيح إلى ما حصل في سنة 1995 حيث جرى "تجديد ولاية الرئيس الياس الهراوي، لكن السوريين أبقوا القضية معلّقة حتّى آخر لحظة، مما تسبب بتوتر سياسي في البلد. وأدّى ذلك إلى تكهنات مقابل العملة اللبنانية في وقت لم يكن فيه مصرف لبنان قد بنى احتياط كاف. في تلك المرحلة، ساءت السمعة وصدر مشروع قانون سندات الخزينة بنسبة 40%، وكان السوريون مشتبه بهم بشدّة بالتورط في ذلك، خاصة وأنهم إستفادوا من المضاربات وسندات الخزينة، ولكن هناك أدلة قوية غير متوفرة تثبت ضلوعهم في ذلك".
أمّا في سنة 1996، أشار صبيح إلى "الحرب الثانية بين إسرائيل وحزب الله، حيث بدأت بيئة الأعمال بالتغيّر نتيجة حرب عام 1996، وتراجع معدل النمو الذي تحقق في السنوات السابقة إلى النصف بسبب التدهور وارتفاع المخاطر الامنية في البلد، ما تسبب ايضاً بإنخفاض الاستثمار، وخاصة في القطاعات الإنتاجية".
وتحدّث صبيح في تحليله حول ما حصل سنة 1997 فيما يتعلق بـ "تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار 1507.5 ليرة لبنانية"، ولفت إلى أنه "في هذه المرحلة، وفي مواجهة الاضطرابات السابقة اضافة الى الفوضى التي حصلت، كان يُمكن لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يترك الليرة اللبنانية لتصل إلى مرحلة "التعويم". ولكن مع المشكلة النقدية في السنوات 1986-1992 ومن خلال رؤيته، إختار سلامة حماية القوة الشرائية وإعادة بناء الطبقة الوسطى. وقد تحقّق هذا نسبياً في السنوات اللاحقة مع عشرات الآلاف من القروض المدعومة التي تستفيد منها الأسر (الإسكان والتعليم) وكذلك القطاعات الإنتاجية.
وربط صبيح تحليله مع ما جرى سنة 1999، حيث جرت المواجهة الثالثة بين إسرائيل وحزب الله، معتبراً أن "تتابع هذه الصدمات قد أثّر على الوضع المالي والميزانية العامة لمصرف لبنان، ما استدعى مبادرة دولية".
بعد كل ما جرى، تحدّث صبيح عن "مؤتمر باريس 2"، لافتاً إلى أنه "بعد اجتماع تحضيري أولي في عام 2001، اجتمعت مجموعة مساعدات دولية بهدف تقديم حزمة مساعدات متعددة الأوجه، وقد تم التعهّد بمليارات الدولارات بهدف تنفيذ الإصلاحات والخصخصة التي كان الرئيس إميل لحود قد تجاهلها في الجلسة الاولى لمجلس الوزراء بعد المؤتمر مباشرة.
وأضاف، "وكرّس هذا السيناريو منذ ذلك الحين، ومن ناحية أخرى، شارك مصرف لبنان والمصارف في جهود التمويل من خلال شطب جزء من الدين العام وتخفيف أعبائه من الخدمة السنوية، ما أدى إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار النصف".
ورأى صبيح أن "البنوك وقعت مذ ذاك تحت الضغط، وفي وقت مبكر من التسعينيات، أصبحت العديد من البنوك مسيّسة أو سيئة الإدارة، وشكلوا تهديداً للقطاع. وحينها، طلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من هذه المصارف الانخراط في عمليات الاندماج والاستحواذ، بدعم من البنوك الكبرى، وقد تم تنفيذ هذه العمليات دون أن يخسر مودع واحد الأموال".
وواجه حاكم مصرف لبنان سنة 2004 ملف "بنك المدينة" وتداعياته، حيث "تم إنشاء هذا البنك من قبل الأخوين عدنان وإبراهيم أبو عياش، ولكن كانت تدار من قبل رنا قليلات المدعومة من جهات سياسية قوية، حيث فرضت أسعار فائدة عالية، وأصبح البنك من أفضل عشرة بنوك. وحصلت قليلات على دعم علني من السوريين وحلفائهم المحليين، متجاهلاً توجيهات مصرف لبنان. استفاد رستم غزالة من بطاقة دفع غير محدودة.
وأضاف، "في حينها هزأت رنا قليلات من رياض سلامة وتعمّدت الاتصال به من عنجر للدلالة على أنه لا يستطيع فعل شيء ضدها، وبعد بلوغ العجز في البنك 1.3 مليار دولار، تمكن رياض سلامة نهاية المطاف من تقليل العجز إلى 300 مليون دولار بينما ظلت السلطة السياسية سلبية تجاه التطورات التي يمكن أن تؤدي إلى عدوى بين المؤسسات. وفي وقت لاحق، كان رياض سلامة مستعداً لإتخاذ قرار يشكّل خطراً على حياته تمثّل بإغلاق بنك المدينة وتعيين أشخاص مختصين لإستكمال المهمة".
وأضاف صبيح، "ملف بنك المدينة يشكل مثالاً على البيئة السياسية والمالية التي كانت سائدة في البلاد حينذاك، كما المشاكل التي تحدّ من هامش مصرف لبنان للمناورة".
وتحدّث صبيح حول ما جرى في سنة 2005 تحت عنوان "الاغتيالات"، وإنطلق من "إغتيال الرئيس رفيق الحريري أولاً، يليه عشر شخصيات عامة أخرى، وكان حينها مصرف لبنان المركزي يحاول إبقاء النظام صامداً في مواجهة خروج رأس المال، وأسعار الفائدة على القروض الممنوحة من قبل مصرف لبنان ومصارف الدولة، ومع ذلك، ظلّت أقل بكثير من مثيلاتها في الدول الاخرى، وحتى الوقت الحاضر".
ولفت صبيح إلى حرب تموز سنة 2006، حيث "تسببت هذه الحرب الواسعة النطاق أيضًا في هروب رؤوس الأموال، بالإضافة إلى الخسائر الهائلة، التي تضخم العجز العام وتثقل كاهل الميزانية العمومية لمصرف لبنان. وشهدت تلك المرحلة بدء سلسلة من فترات طويلة لفراغ في السلطة، حيث كانت تعمل بدون ميزانية وعلى نطاق لا مثيل له من الفساد".
وتابع، "بعد بضعة أشهر، أعطى مؤتمر باريس الثالث البلاد نفساً ليستعيد حيويته، بينما كرّر الشروط لنفس بنود الإصلاح".
وذكرَ صبيح ما جرى سنة 2008 من "أحداث السابع من أيار"، حيث إعتبر أن هذه الأحداث "أثارت تهديداً في الأفق لاستئناف الحرب الأهلية، وكانت ضربة أخرى للوضع المالي للبلاد، ولكن لحسن الحظ تم تخفيفها من خلال التدفقات الداخلية لرأس المال هروباً من الأزمات المالية العالمية".
وتطرّق صبيح في تحليله، إلى المرحلة في سنة 2011، حيث نشأت "الأزمة في سوريا، وإعتبر أنه "إلى جانب تدفق اللاجئين وتورط حزب الله في الصراع، واجه نظامنا المصرفي تحدياً من العقوبات الدولية على النظام السوري وحلفائه، ولجأ رجال الأعمال السوريين إلى قطاعنا المصرفي، وأثار القلق بشأن العقوبات حملة "تهدئة المخاطر" بين بعض البنوك
(كان أحد التدابير الحكيمة هو تجنّب الاتصال بأي مواطن سوري). رغم ذلك إستمر السوريون في استخدام لبنان بشكل غير قانوني كمنصة لشراء السلع، الوقود والدولار. وقد أشار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى ذلك عدة مرات، ولكن دون جدوى".
وتطرق صبيح في تحليله، إلى ما جرى سنة 2015، متحدثاً عن "عقوبات ضد حزب الله"، ولفت إلى أن "العقوبات الأميركية الحالية ضد حزب الله تم تشديدها في عام 2015، وفي هذا السياق، كانت البنوك تعمل في حقل ألغام، وفي نفس الوقت تجنبت "معاقبة" المجتمع الدولي بأكمله".
وأضاف صبيح، "كان عنصر "الخطر السياسي" في وكالات التصنيف يزداد تدهوراً في حين أن البنوك الأجنبية أصبحت قلقة للغاية".
وتوقّف صبيح عند ما جرى سنة 2016، حيث "توقف الدعم من الخليج العربي، وألغت المملكة العربية السعودية دفع 4 مليارات دولار إلى الجيش اللبناني ومساعدات مدنية لأن لبنان لم ينضم إلى باقي الدول العربية في إدانة الهجمات على السلك الدبلوماسي السعودي في إيران".
وأوضح أنه "كانت تلك أوضح إشارة أن شركائنا الخليجيين، الذين كانوا طوال عقود يشكلون سبباً لجلب "أموال جديدة" للبلاد، أصبحوا مترددين في المساعدة بسبب الخيارات السياسية اللبنانية".
ومن المخاطر التي رافقت حاكم مصرف لبنان، أشار صبيح أن ما جرى سنة 2017 حول "الزيادات في الرواتب العامة"، واصفاً أنها "كانت هذه آخر كارثة مالية حكومية، حيث لم يتم الأخذ بنصيحة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكان واضحاً ذلك للجميع أن سلامة قدم تحذيراته خلف الكواليس".
وختم صبيح تحليله، متوقفاً عند مؤتمر "سيدر"، حيث أشار إلى أن " سيدر هو مؤتمر نهائي حول نفس أسس اجتماعات باريس السابقة تحت عنوان عريض "التمويل مقابل تنفيذ الإصلاحات"، معتبراً أنه "كانت هذه الفرصة الأخيرة قبل الإنهيار، وفي كل منعطف مماثل، قدَّر الحاكم أن النظام سيعمل مرة أخرى إذا تم تنفيذ خطة الإصلاح، ولكن في كل المحطات السابقة تمّ خداع الجهات المانحة".
لقراءة الدراسة باللغة الانكليزية اضغط على الرابط التالي
http://lbdb.co/7092020.pdf